
1 نيسان
في رحاب الإسكندرية، تلك المدينة العريقة التي تحتضن بين ثناياها عبق التاريخ وأمواج البحر، أبصرت النور مريم عام 345 للميلاد، من أبوين ارتوت روحهما من معين المسيحية الصافي. بيد أن أقدار الحياة غالباً ما تأتي بما لا يُحتسب، ففي ربيع الثانية عشرة من عمرها الغض، انزلقت قدماها على طريق السقوط، لتنطلق في دروب الخطيئة نحو مدينة اورشليم المقدسة.
هناك، في تلك البقعة المقدسة التي شهدت أقدام الأنبياء، استمرت مريم في غيها، أسيرة لملذات الدنيا وشهواتها. وعندما تاقت روحها المثقلة بالذنوب لدخول كنيسة القيامة، مهد السيد المسيح وقبره المقدس، شعرت بقوة خفية تجذبها إلى الوراء، وكأن يدًا غير مرئية تمنعها من تجاوز العتبة.
يذكر السنكسار، وهو كتاب يحوي سير القديسين، قصتها العجيبة وتوحدها الفريد. فكلما همّت بالدخول، كانت تشعر بقوة تحول بينها وبين مبتغاها، وسرعان ما أدركت أن ثقل خطاياها هو الحاجز المنيع.
في لحظة تضرع وابتهال، رفعت مريم عينيها المغمورتين بالدمع نحو السماء، وقلبها يعتصره الندم. استشفعت بالسيدة العذراء مريم، باكية بدموع حارة، متوسلة إليها أن تتوسط لها عند ابنها الحبيب. ثم تجلّدت عزيمتها وحاولت الدخول مع الداخلين، فإذا بها تجد الطريق مفتوحًا أمامها، وكأن القدر قد أزاح عنها عبء الماضي.
دخلت مريم الكنيسة مع الساجدين، وصلت إلى الله بقلب خاشع، طالبة منه أن يرشدها إلى الطريق الذي يرضيه. ثم وقفت أمام أيقونة العذراء، وتوسلت إليها بحرارة أن تدلها على سبيل خلاص نفسها. فإذا بصوت رقيق يتردد من ناحية الأيقونة، قائلاً بوضوح: “إذا عبرت الأردن تجدين راحة وطمأنينة”.
انتفضت مريم مسرعة، وخرجت من ساحة القيامة المقدسة. وفي طريقها، شاء القدر أن تلتقي بإنسان غريب، وهبها ثلاثة دراهم من الفضة، ابتاعت بها ثلاثة أرغفة من الخبز. ثم عبرت نهر الأردن، لتلجأ إلى برية قاحلة، حيث قضت سبعًا وأربعين سنة في عزلة وتنسك.
خلال سبع عشرة سنة منها، خاضت مريم جهادًا مريرًا ضد وساوس الشيطان وإغراءات الإثم الذي تابت عنه، حتى تغلبت عليها بنعمة الله. وكان قوتها في تلك السنوات العجاف من حشائش البرية.
وفي السنة الخامسة والأربعين من وحدتها، خرج القديس زوسيما الكاهن إلى البرية، جريًا على عادة رهبان تلك النواحي في فترة صوم الأربعين المقدسة، بحثًا عن الخلوة والتأمل. وبينما كان القديس زوسيما يسير في تلك البيداء المترامية الأطراف، لمح من بعيد شبحًا يتحرك. ظنه في البداية خيالًا، فرفع قلبه إلى الله مبتهلاً أن يكشف له حقيقة هذا الطيف. فأُلهم بأنه إنسان.
أراد زوسيما اللحاق به، لكن الشبح كان يهرب أمامه. وعندما رأت مريم أنه لم يكف عن تعقبها، نادته من وراء تل صغير بصوت خافت: “يا زوسيما، إن شئت أن تخاطبني، فارم شيئًا أستتر به لأني عارية”. فتملّكته الدهشة إذ نادته باسمه الذي لم تعرفه. رمى لها زوسيما قطعة من القماش استترت بها، ثم اقتربت منه. وبعد السلام والمطانيات، طلبت منه أن يصلي عليها لأنه كان كاهنًا، واستوضحته عن سيرتها. فقصت عليه مريم قصتها كاملة، منذ نعومة أظفارها وحتى تلك اللحظة. ثم طلبت منه أن يحضر معه في العام القادم القربان المقدس ليناولها منه جسد الرب ودمه الأقدسين.
في العام التالي، عاد القديس زوسيما إلى نفس المكان، ومعه الأسرار الإلهية، فناولها منها. ثم قدم لها بعضًا مما كان معه من التمر والعدس، فاكتفت ببضع حبات من العدس المبلول. وطلبت منه أن يعود في العام المقبل. وعندما وافى زوسيما الميعاد في العام التالي، وجد مريم قد فارقت الحياة، وإلى جوارها أسد وديع يحرس جثمانها الطاهر. وعند رأسها، وجد كتابة غريبة تقول: “ادفن مريم المسكينة في التراب الذي منه أخذت”. فازداد عجبه من هذه العلامة ومن وجود الأسد.
وبينما هو يفكر كيف يحفر الأرض ليواريها الثرى، تقدم الأسد الوديع وحفر الأرض بمخالبه القوية. فصلى الأب زوسيما على جثمانها الطاهر ودفنها في تلك البرية.
ثم عاد القديس زوسيما إلى ديره، وأخبر الرهبان بسيرة هذه القديسة التائبة، فازدادوا ثباتًا في الإيمان وعمقًا في الرجاء بالرحمة الإلهية، وتقدمًا في مسيرتهم الروحية. وهكذا، أسلمت مريم الروح بعد حياة مليئة بالتوبة والنسك والجهاد الروحي، عن عمر يناهز ستة وسبعين عامًا، لتظل قصتها نبراسًا يهدي التائهين وعزاءً للمنكسرين.
إعداد الأب وليم عبد المسيح الفرنسيسكاني